الرصافة القديمة مدينة الغساسنة
الرصافة
القديمة مدينة الغساسنة
الرٌصافة رصافتان هما : الرصافة المسيحية القديمة ، ورصافة هشام بن عبد الملك الإسلامية ، التي تحيط بالرصافة القديمة من جميع الجهات ، وسيقتصر الحديث فقط عن الرصافة القديمة..
كان القرن الرابع الميلادي
انطلاقة للفن المسيحي بشكل علني، بعد الاعتراف بهذا الدين من قبل الامبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور الروماني "قسطنطين"سنة /315/ م، أصبح من الواضح جلياً، أنَّ الفن المسيحي لاسيما العمارة المسيحية، قد مرت في مراحل تطورها بمراحل هامة، ففي بداية القرن الرابع الميلادي لم تتوضح بعد معالم شخصية الفن المسيحي، ولكن بدأ يثبت أقدامه وطابعه الشخصي الممييز, خلال الربع الثاني من القرن نفسه, وفي منتصف القرن ذاته توسع الفن المسيحي توسعاً ملموساً, وتجلى ذلك في كنائس ضخمة, وكاتدرائيات لائقة، وفي القرن الخامس الميلادي، تحلت الكنائس بالغنى الوفير من العناصر الزخرفية الجديدة..
أما القرن السادس الميلادي، فيعتبر بحق عصر غربلة العناصر الدخيلة على الفن المسيحي خلال القرون السابقة، وانتقاء الصالح منها، وصياغة مبادئ جديدة لتطور وإغناء هذا الفن الجديد. ومع مسيرة تطور هذا الفن، نجد أنَّ أقطاب الفن المسيحي في سورية، قد حققوا في أعمالهم المعمارية، درجة ملموسة من الاستقلال عن تأثيرات العاصمة "بيزنطة". وكما هو معلوم أنَّ, الطريقة البيزنطية تتجلى بالأبهة الداخلية، التي تهبها للجدران الداخلية للكنيسة بواسطة ألواح المرمر الملونة، والفسيفساء الزاهية, والرسوم الجدارية البديعة، بينما تهمل مقابل ذلك خلق أي تأثير أو جاذبية من الخارج..
إنَّ الطريقة المحلية في سورية، التي يحق لها أيضاً أنْ تفتخر بتراثها الأصيل في الفسيفساء والرسوم الحائطية, فإنها لا تعتمد على الزخرفة السطحية فقط، بل تعتمد على زخرفة البناء داخلياً وخارجياً، بطريقة الحفر العميق الذي يترك انطباعاً للبعد الثاني، والنحت على الحجر نفسه، المستعمل في البناء وإبراز زخارف معمارية بحتة فيها البساطة والواقعية والجمال. ولما كان الفن البيزنطي، هو الحلقة المتممة للفن المسيحي، فإنه ابتداء من القرن السادس الميلادي، بدأ البحث عن المسمى الجديد، وهو الفن البيزنطي الذي ساد بشكل مطلق في القرن السابع الميلادي كافة أرجاء الإمبراطورية البيزنطية، ولكنه ظل يحمل الطيف الأوسع من روح الفن المسيحي في سورية.
ومن أهم المراكز التي انتشر فيها الفن المسيحي السوري، وعلى امتداد حدود سورية الجغرافية, نجد مجموعة كبيرة من الكنائس والكاتدرائيات, التي يعود تاريخها إلى القرون المبكرة, الرابع والخامس والسادس الميلادية، وتنقسم سورية جغرافياً إلى ثلاثة مناطق أثرية بالنسبة لتراث (الفن المسيحي – البيزنطي السوري)، وما خلفه من أوابد أثرية ومعمارية، وكذلك بالنسبة إلى كافة الآثار القديمة، وهذه المناطق هي:
@-المنطقة الجنوبية: وتضم منطقة حوران، منطقة "جبل العرب"، المناطق البركانية، "اللجا" و"الصفا"، والمناطق المجاورة لهما، وأحجار هذه المناطق بازلتية سوداء وقاسية، يصعب على الفنان السيطرة عليها،@- المنطقة الشمالية والشمالية الغربية: وتضم المنطقة الساحلية وجبل "الزاوية" و"أريحا" و"العلا" ومنطقة جبل "سمعان" وغيرها, وأحجار هذه المناطق كلسية ذات نوعية جيدة ملائمة للنحت، وصالحة بشكل ممتاز للبناء.
@-المنطقة الشرقية ومنطقة "الجزيرة : وهي أرض سهلية فيها بوادٍ، تمتد من "دمشق" إلى "تدمر"، وعلى ضفاف "الفرات" وحتى جبل "عبد العزيز" في الشرق.. أحجارها جصية – حوارية رملية المنشأ هشّة، وغير مقاومة لعوامل التعرية.. وتضم هذه المنطقة مجموعة من المواقع الأثرية من الفترة المسيحية- البيزنطية جوهرتها مدينة "الرصافة" الأثرية، التي يسميها الأستاذ الباحث الكبير "بشير زهدي"، "لؤلؤة البادية"، ونقطة الحج الأولى في العصور الوسطى، وقبلة الزوار والسواح في الزمن الماضي وفي الزمن المعاصر... كان أول ذكر للرصافة في العصور الحديثة عام /1861/ م عندما كانت تمر بالقرب منها قافلة تجارية إنجليزية، قادمة من شركة الهند الشرقية، ومقرها لواء "إسكندرون" آنذاك عبر مدينة "حلب" متجهة صوب مدينة "تدمر" الأثرية، حيث صادف المشرفون على القافلة، حقلاً واسعاً من الخرائب والأطلال المتهالكة.. كان المدعو "هاليفاكس" قائداً لهذه القافلة، وما أنْ رأى هذه الأطلال، أطلال كنيسة القديس "سرجيوس"حتى قام بتصويرها، وعمل لهذا الحقل رسومات هندسية.
وفي عام /1903/ م تحدث عن "الرصافة" العالم "شابو", حيث أعادها إلى الذاكرة, لتتوالى بعد ذلك المعلومات عنها تباعاً. وفي عام /1907/ م، زارها كل من "هارتسفيلد" و"سار"، وأصدرا عنها مجلداً ضخماً مزوداً بالصور والوثائق، التي أعدّها الباحث "شياز" في عام /1918/ م، وفي عام /1926/ م، صدر عن "الرصافة" كتاب ضخم بقلم السيد "س. خوير"، مزوداً بالصور والوثائق، التي أعدها قبل ذلك السيد "شياز".
تكمن أهمية "الرصافة"، لموقعها الهام على طريق القوافل القديم، الذي ينتهي شمالاً عند مدينة "سورا" الأثرية قرية "الحمام" قرب "الرقة"، حيث يتفرع منها إلى عدة اتجاهات. وتشير أقدم الشواهد التاريخية الآشورية من القرن التاسع قبل الميلاد على وجود تجمّع بشري على أطراف "البادية"، حيث ورد ذكرها كمنطلق للغزوات التي قامت بها القوات الآشورية بهدف حفظ الأمن والاستقرار بين القبائل المنتشرة في "البادية". وقد ورد ذكر "الرصافة" تحت اسم "ريسيف" في كتاب "إصحاح الملوك الثاني" من الرقم /19/ إلى /121/، وكلمة "ريسيف" هذه تعني حسب آخر التفسيرات العلمية الحجر البراق اللمَّاع، وأهل منطقة "الرصافة" في يومنا هذا يقولون أنها مشيدة من حجر "الْبرْيِّجْ"، أي من الحجر البراق, وهناك معنى آخر يقول: إنها, أي "الرصافة" مشيدة من صخور بيضاء، لكنها غير ناضجة جيولوجياً، وأنَّ الحجر الواحد من هذه الصخور مكونة من عدة طبقات مرصوفة بعضها فوق البعض الآخر، لذلك سميت بـ"الرصافة". ويمكن القول أنه من الممكن ألاّ نعرف الكثير عن تاريخ "الرصافة"، لو لم يقع بالقرب منها حادث استشهاد القديس "سرجيوس" وصديقه القديس "باخوس"، والقديس "سرجيوس" كان ضابطاً سورياً يخدم في الجيش الامبراطوري، وكان من أوائل المعتنقين لهذا الدين في محيطه الاجتماعي، ولموقفه هذا استشهد في عهد الإمبراطور "ديوكلسيان" في مدينة "إيمار"، وهي "مسكنة" القديمة التي غمرتها مياه بحيرة "الأسد" في سبعينيات القرن الماضي. وقد لقي "سرجيوس" شتى أصناف الاضطهاد في سبيل عقيدته، كان أخرها إجباره على السير فوق مسامير حادة وضعت في حذائه ما يقرب من /30/ كم، ثم أعدم بقطع رأسه سنة /305/ م، وقد أكرمت المدينة شهيدها القديس "سرجيوس" حيث ضمت رفاته ودعت نفسها بـ "سرجيوبوليس" تقديراً له. ثم أقامت مزاراً فوق قبره حوَّله فيما بعد جماعة من الأساقفة إلى كنيسة لتخليد ذكراه.
وفي وقت لاحق شيدت كنيسة ثانية أنفق عليها ثلاثمائة أوقية ذهب ثم تحولت كنيسة القديس "سرجيوس" عام /559/ م إلى "بازيليكا" وصارت مقراً لمتروبوليت في عهد الأسقف "أبراهام" أسقف مدينة "الرصافة"، يعاونه أربعة من الأساقفة. وهكذا ذاع صيت هذه "البازيليكا" التي جددّها بعد موت الأسقف "أبراهام"، كل من الأساقفة "سرجيوس" و"ماردينوس"، وبذلك أصبحت المدينة محجّة يتقاطر إليها المؤمنون الزوار من كل مكان يحملون الهدايا والنذور.
وفي بداية القرن السابع الميلادي، استبدلت أسوارها القديمة بأسوار جديدة بنيت من الصخور الجصية، وجعل لها خزانات مياه جديدة. وقال عنها "ابن شداد" في كتابه "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة: ((..بناها "جددّها" هشام بن "عبد الملك بن مروان", ولها سور من الحجر, وفي داخلها مصنع كبير لماء المطر, يشرب منه أهلها, وهي منيعة لأنها في برية, ولا ماء عندها)). وحسب "الطبري"و"ابن شداد"، فإنه في زمن "بني أمية"، قد كثر وفشى مرض الطاعون، وفي ذلك الزمان كانت العرب تنتجع البر هرباً من هذا الوباء الخطير، وكانت تبني القصور، إلى أن ولي الخليفة "هشام بن عبد الملك"، فابتنى "الرصافة" الإسلامية خارج أسوار المدينة البيزنطية، وجعل فيها مجموعة من القصور.
وذكر "حمزة بن الإصفهاني" في كتاب"تواريخ الأمم"، أنَّ
خزانات مياه الرصافة جددها
"النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن مارية"، "ذات القرطين" وهي يمانية، بقوله: ((أبناء "جفنة" بنوا حول قبر أبيهم, قبر ابن مارية الكريم المفضل)), وقيل فيها المثل: "خذه بقرطي مارية, ولا تبعه ولو بقرطي مارية", وهو أحد ملوك العرب الغساسنة, وهو الذي أصلح صهاريج مياه "الرصافة", وكان بعض ملوك الفرس قد خربوها, وكان هذا الملك الغساني, قد بنى له قصراً صغيراً قبالة المدخل الشمالي لمدينة "الرصافة" البيزنطية من الجهة الشمالية, وله مخطط متصالب فوق نقطة مركز هذا التصالب, تقوم قبة مزخرفة من الداخل برسومات لم يبقَ منها سوى الأثر.
تبعد مدينة "الرصافة" عن "الرقة" حوالي /45/كم جنوباً, وتصل إليها طريق معبدة عبر بلدة "المنصورة" جنوباً, وتقدر مساحتها داخل الأسوار بـ/18/ هكتار، وخارج الأسوار بـ/800/ هكتار, وعلى الخارطة الجوية مثبت عليها أكثر من /300/ موقع أثري, منها المقالع الحجرية, ومنها القبور في الشمال والشرق والغرب.
وفي عهد الإمبراطور البيزنطي "اناستازيوس", دعيت "الرصافة" بـ"اناستازيابوليس", وكانت القبائل العربية الغسانية تقطن في محيطها من تلك الفترة, وجعل أميرها "المنذر بن حارثة الغساني" مقره خارج الأسوار "كما أسلفنا", الذي أصبح الحاكم المطلق عليها في تلك الفترة. وفي عهد الملك الفارسي "كسرى" الثاني أُحتلت المدينة من قبله, حيث دمرت أغلب المنشآت المعمارية فيها, وظلت المدينة بعد ذلك خربة ومتهدمة, حتى فطن لها الخليفة العربي "هشام بن عبد الملك", الذي جدد أسوارها وخزانات المياه فيها, وكذلك أمر بترميم كنائسها, وشيَّد داخل أسوارها قصراً وسوقاً. كما أنه بنى فيها جامعاً ملاصقاً لظهر "البازليكا" من جهة الشمال, دمره "القرامطة" فيما بعد.
وفي عهد "هشام", شُيّدت مجموعة من القصور والمنازل خارج أسوار المدينة, حيث شمل البناء مساحة واسعة تمتد إلى /2/كم من كل الاتجاهات, مما أعاد "للرصافة" رونقها الجميل وبهاءها الأخاذ, فكثر سكانها من العرب على كافة مذاهبهم ومشاربهم, وانتعشت تجارتها وحضارتها, وسكنها الشعراء والكتاب, من جميع أرجاء الخلافة, وجعل لها مضماراً شهيراً لسباق الخيول العربية الأصيلة, سمي بمضمار "هشام". وكانت لياليها ليالي أنس ومحبة, عاش الناس فيها وعلى اختلاف أطيافهم, على أساس من المحبة والمودة والمواطنة, وظلت المدينة عامرة, إلى أنْ داهمها العباسيون بعد سقوط الدولة الأموية سنة /750/م, فنهبوها ودمروها مرة أخرى, كما أنهم نبشوا قبر الخليفة "هشام بن عبد الملك" ومحوا معالمه, ولم يبقوا على أي أثر له صلة ببني "أمية".
في القرن التاسع الميلادي تعرضت "الرصافة" لزلزال قوي, تسبب في تصدُّع أغلب الأبنية فيها وتهدُّم بعضها الآخر, ومن أخبار المدينة بعد الغزو المغولي لسورية, بين أيدينا نص من القرن الحادي عشر الميلادي للرحالة العربي "ابن بطلان", الذي زار "الرصافة" آنذاك, فذكر وجود "البازيليكا" فيها، ويذكر أيضاً أنَّ أهل "الرصافة" حينذاك, كانوا يطلبون الماء من صهاريجها, فإذا جفت تلك الصهاريج, كان عليهم أنْ يجلبوا الماء من "الفرات", الذي كان يبعد عنهم مسيرة نهار كامل, كما أنَّ الأهالي كانوا يعيشون على بيع الألبسة الصوفية, التي كانت تنسج في مدينتهم التي تكثر فيها الأغنام والماعزز
كما أنَّ "ابن بطلان" يذكر أيضاً, أنَّ أهالي "الرصافة" كانوا يبيعون أكياس العلف, وما زال الأهالي الذين يقطنون في محيط "الرصافة" يمتهنون هذه المهنة في أيامنا هذه, ويذكر "القزويني", أنَّ أهل "الرصافة" لم تكن لديهم الحبوب بسبب مرور المنطقة بسنين عجاف, حيث لا ماء يرتوون به أو أي شيء يعينهم على العيش الكريم, ولكن تعلقهم بديارهم ومسقط رأسهم, كان وحده الدافع لهم على البقاء حيث هم وحيث مدينتهم.
وفي عهد السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس", بين الأعوام /1260/- /1277/م, تمت عملية ترحيل وإسكان جديدة,
إذ أنه أمر بنقل أهل "الرصافة", إلى كل من "حماة" و"السلمية", لما كان يعانيه السكان من وضع صعب للغاية, بعد الغزو المغولي للمدينة سنة /1257/م, الذين أجهزوا على المدينة بالضربة القاضية بعد أن دمروا "الرقة" قبلها، واليوم يمكن للزائر, رؤية خرائب وأطلال "الرصافة", قبل الوصول إليها من مسافة بعيدة, لأنها واقعة في منبسط من الأرض, بين جبلي "البشري" في الجنوب و"أبو رجمان" في الجنوب الغربي, ويقصدها البدو الرحل بحثاً عن المرعى في فصلي الصيف والربيع. وتتميز أبنية "الرصافة" بأنها مشيدة من الأحجار الجصية الهشّة, وهذه الأحجار تتميز ببريقها المشرق, حيث أنها تلمع بمجرد سطوع أشعة الشمس عليها, وكأنها أبراج من الزجاج, ومن هنا جاءت التسمية. وهذا الحجر الجصي هش وسهل التآكل وغير مقاوم لعوامل التعرية, لكن له منظر جميل وأنيق, ورغم كل هذه الصعوبات, إلاَّ أنَّ المهندسين كانوا قد, أوجدوا حلولاً هندسية مناسبة لتجاوز مثل هذه الصعوبات..
@- المصادر :
*-أ.زهدي، بشير ..الرصافة لؤلؤة البادية ، المديرية العامة للآثار والمتاحف ، دمشق..
*- تقارير البعثة الألمانية المنقبة في الموقع من عام /1952/ وحتى عام /2001/، منشورة في الحوليات العربية السورية من عدد/2/ إلى عدد /86/.
* - تقارير كاتب المقال المشارك في التنقيب الأثري في الأعوام /2002/ /2001/،م ويمكن الرجوع إليها في أرشيف المديرية العامة للآثار والمتاحف بـ"دمشق"، والمتحف الوطني في "الرقة"سابقا..
تعليقات