الرقة بعد عام "1850م من الخراب إلى العمران

حسب الدفتر المالي للدولة العثمانية، عرفت الرقة بعد الغزو المغولي ثلاث هجرات بشرية كانت على النحو التالي: - الهجرة اﻷولى هجرة قبيلة البوشعبان وعشائر كل من المعامرة،والبوجابر،والعجيل والبوراشد إلى منطقة الرقة في عام (1697م)، وتوزع سكن عشائر هذه القبيلة والعشائر اﻷخرى على ضفاف البليخ اﻷدنى، ومن ثم محيط المدينة اﻷثرية منطقة الدرعية ،ومنطقة الرقة السمراء و تل زيدان.ومنطقة قرية شمس الدين وفي.. الجهتين الجزيرة والشامية وفي منطفة السبخة، وكذلك مجموعات من هذه العشائر سكنت منطقة الوريدات ومنطقة الخفسة وإلى الغرب من مدينة حلب وشرقها
-الهجرة الثانية ، هجرة قبائل عنزة في عام (1817م) لحقتها هجرة ثانية لنفس القبيلة ، بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميﻻدي، لتدعم أوائل المهاجربن من قبيلتهم ، قسم استقر إلى الغرب من البليخ،بينما"ضنا ماجد" استقروا شرقي البليخ، وكانوا ينتجعون في الشتاء إلى الشامية (حمصي فرحان الحمادة،الندوة الدولية ﻷثار وتاريخ الرقة.ص 156).
-الهجرة الثالثة عام(1840م) هجرة الرواد اﻷوائل للعشائر العربية التي سكنت المدينة اﻷثرية داخل اﻷسوار ، والتي كان لها الفضل اﻷول والرئبس في إعادة الحياة لمدينة الرقة، بعد سبات دام خمسة قرون .. في عام (1840=1834م) سيطر/محمد علي باشا/والي مصر على سورية، وهذا الوظع الجديد يعني إنهيار السيادة العثمانية على بﻻد الشام مما أثر على واقع التظيم اﻹداري للرقة وسائر الجزيرة الفراتية، ولدينا وثيقة للرحالة الكولونيل/ شيزني/، الذي زار منطقة الرفة في عام (1837م)ويقول في الوثيقة التي نشرها؛ أنه لم يشاهد في الرقة قرية ثابتة، ورغم ذلك، فالقبائل متشبثة في اﻷرض، وكعادتها الرقة في الظروف الصعبة تحتال على الحياة ، كما جاء في وصف المعجم اﻷلماني لمنطقة الرقة في عام (1855م)، بأن منطقة الرقة تكثر فيها الحبوب والثمار والغرﻻن، وأن مدبنة الرقة لم يكن فيها حضري قبل عام(1850م) ويقول/شيزني/: (فالمدينة خرائب، تحيط بها السهول الواسعة)، وغالبأ ما ترسل الدولة العثمانية بعض العساكر ﻹخماد الفتن واﻹضطرابات وإعادة اﻷمن،وكانت هذه القطع العسكرية تخيم في المكان الذي يقع فيه بستان البلدية الحالي وكان اﻷهالي يتجمعون حولهم ..وفي التشكيﻻت العثمانية الجديدة للوﻻيات،همت الدولة بالعمل على توطيد اﻷمن بمنطقة الرقة والجزيرة ،وكانت الدولة حينما تغيب تعمد إلى اﻹتفاق مع إحدى العشائر القوية للقيام بمهمة القوة العثمانية ، لكن تلك اﻹجراءات لم تحقق ما كان مرجوأ منها، ﻷن هذه العشائر كانت متناحرة مع بعضها البعض، مما دفع باﻹدارة العثمانية ألى إقامة مخفر في الرقة سنة(1860م)،بهدف مرافبة عبور النهر وحفظ اﻷمن، بعد إنتفاضات بعض العشائر ،التي تمكنت من اﻹيقاع بقوة عسكرية عثمانية أرسلها/ثريا باشا/والي حلب، وما زال أفراد هذه العشائر يرددون قصيدة قالها الشاعر الشهير/حليلة/ الذيابي التي يقول فيها:
ثريا باش خيم عالشريعة
يريد بﻻدنا غصب عن أهلها
ما بين زعيج والرقة السمرة
بان الفارس أل منهم ومنا
طردنا عسكرو واليوزباشي
وطوأجيهم كورد الدود حنا
أحنا ملوك والتارحبخ يشهد
أحنا زبيد ما نعطي وطننأ
(الرقة،درة الفرات،ص264) ثم أن الوالي العثماني أخضع المنطقة كلها، واصطحب شيوخ هذه القبائل إلى دير الزور ..تأسس المخفر العثماني على مرحلتين، في بداية اﻷمر بني المخفر عام1860م) على بعد (100م) إلى الغرب من قبة/ أويس القرني/، على شكل غرف عربية مستطيلة تتجه إلى الشمال، وتوجد ثﻻثة صور لهذا المخفر واحدة عند الدكتور/ محمود النجرس/ وأخرى عند اﻷستاذ/ طه الطه/ في متحفه ، والصورة الثالثة لدي أنا العبد للة، وفي عام (1863م)، أسست اﻹدارة العثمانية مخفرأ جديدأ بموقع قريب من النهر ، يقع في المنطقة الممتدة من مبنى بناء البريد القديم وحتى مدرسة الحرية شرقأ، إنشائيأ شيد من مادة اللبن الطيني،ولحظ في بناءه تأمين كل المستلزمات الضرورية من بناء مهاجع للعسكر واسبطل للخيل ومكاتب للشرط ومستودعات وآقسام صحية وخدمية وﻹعطاء الرقة الصفة الحضرية بعد بناء المخفر، تم بناء مسجد صغير شيد من مادة اللبن تقريبأ في مكان بناء اﻷوقاف الحالي، وفي عام(1861م) تم بناء مبنى/السرايا/كدار حكومية ﻹدارة المدنية مدنيأ وعسكريأ مكان متحف الرقة اﻷثري،وتم بناء هذا المبنى من مادة اللبن لندرة الحجر الصخري في محيط المدينة،وألحق بمبنى السرايا مخفر للشرطة،وفي الجهة الشرقية للسرايا شيدت مساكن للموظفين مع كافة المستلزمات، وبذلك بدأت المدينة تأخذ منحى إجتماعي حضري جديد، شكل النواة اﻷولى في التطور المدني والحضري المستقبلي لها..وتتفق كافة الروايات سوءأ من المعمرين من سكان المدينة، أو ممن كتبوا عن هذه الفترة،على أن المخفر شكل النواة اﻷولى لسكن اﻷهالي الذين كانوا يتوافدون على شكل أفراد أو أسرة أو أسرتين ،وليس على شكل عشائر، ﻷن العشيرة لم تهاجر كلها بشكل جماعي بل بشكل منتظم، وكانوا يقيمون حول المخفر ،وبذلك تشكلت النواة الريئسة للسكان من تراكم هذه اﻷسر التي كانت في السابق تقطن أرياف المدينة تمتهن الزراعة والرعي، والبعض في التعليم، ولما تراكمت هذه اﻷسر حول المخفر كانوا يجلبون معهم السلع التي يتداولها سكان اﻷرياف لبيعها في التجمع المديني الجديد وكذلك يتعاملون مع الفﻻحين ، يأتون منهم بالمحاصيل والمنتجات الزراعية لبيعها في تجمعهم الجديد..كانت الحياة في بداياتها بالنسبة لهم تعني تأمين الضروريات، ﻷنهم قدموا كمجموعات من الرجال دون اسرهم، ولما تأكدوا من استتاب اﻷمن وسهولة العيش جلبوا أسرهم وكل الذين يرتبطون معهم بحبل القربى وصلة الدم ومن المقربين من أﻷصدقاء والمعارف ،وهذه الجماعات المهاجرة تنتمي لعشائر معروفة؛ مثل عشيرة البوبدران الحسينية وعشيرة طي ودليم وغيرها من العشائر المباركة، وحين قدومهم إلى الرقة بقي قسم كل عشيرة في أرض المهد و في المكان الذي هاجرت إليه قبل قدومها إلى الرقة،وكانت هناك اتصاﻻت بيهم بواسطة الرسائل التي كانت ترسل مع المسافرين من الرها أو الموصل أو غيرها، إلى الرقة أو العكس، ومن هذه الرسائل رسالة أرسلها(بليبل) الجد اﻷكبر لعشيرة البليبل .وهو في الرقة ،رحمه الله، كان متعلمأ وكان يقرأ القرآن وكان يؤذن في الجامع ولجمال صوته سمي بهذا اﻹسم الكريم، إلى قريبه (عجيلي) طيب الله ثراه كان رجلأ متعلمأ يدرس حفظ القرآن الكريم، وهو في الرها هذه الرسالة كانت مكتوبة على شكل مراددة شعرية باللون الشعبي أورد منها الراحل/ محمود الذخيرة/رحمه الله، أربع مقاطع في كتابه/أهل الرقة/يقول:
ريام وردن الخللي هبالهين
نظرت وصاب دﻻلي هبالهين
عجيلي يقول ريام الزور
يبليبل هبلتهين أخير من
الوسيجة اللي بالرها
أكيد أبيات تطرب من يتذوق الشعر الشعبي الرقي الجميل. في عام (1864م) أصبحت الرقة ناحية ، بعد إحداث قائمقامية دير الزور وألحقت الرقة بالدير ، وعين للرقة قائم مقام ، ثم ألحق قضاء دير الزور بوﻻية حلب وبعد نصف عام جعلت دير الزور سنجقأ أي متصرفية وبلدة السبخة أصبحت قضاءأ ألحقت به ناحبة الرقة(ياحسرة)كل هذه التغيرات اعتبرت نقطة تحول جديدة عرفتهأ الرفة أثناء التشكيﻻت الجديدة للوﻻيات العثمانية(الكتاب السنوي، سالنامة وﻻية حلب ص 35 )، وفي عام (1869م)أصبحت الرقة مركز قضاء لكنها ظلت تابعة لدير الزور ، ولما ألحق دير الزور بحلب عندما جعل منه مركز لواء عام(1870م)ألحق به قضاء الرقة،وبعد فك إرتباط لواء الدير بحلب وإرتباطه المباشرة بإستنبول؛ تم في عام(1885م) فك إرتباط الرقه بالدير وألحق بوﻻية حلب..وتشير الوثائق التاريخية في متحف الوثائق التاريخية بدمشق إلى أن عدد موظفي قضاء الرقة في عام(1869م) كان عددهم سبعة فقط على النحو التالي: (القائم مقام ، قائد الدرك، مدير المال،الموظفون المسؤولون عن جباية الضرائب)..وفي الربع اﻷخير من القرن التاسع عشر المبﻻدي، زار الرقة مجموعة من الرحالة واﻷثاريين وجميعهم قدموا تقارير عن مشاهداتهم ومرئياتهم عن المدينة، فهذه الرحالة اﻹنجليزية/الليدي آنا بلنت/التي زارت الرقة عام(1878م)،ونشرت كتابأ عنوانه"قبائل بدو الفرات"ترجمه إلى العربية اﻷستاذ/أسعد الفارس/، تشير إلى أنها دخلت أسوار المدينة برفقة الضابطة العثمانية ولم تجد فيها سوى الخيام المسكونة(بيوت الشعر)من قبل من سمتهم ب"الشوايا"،وفي عام 1879 قام الرحالة الدكتور/زاخاو/الذي قدم تقريرأ مفصلأ فيه وصفأ دقيقأ عن مشاهداته البومية لمختلف جوانب الحياة في الرقة إذ يقول :
(وعدد السكان الحالي للرقة ﻻيتجاوز المائة نفس من بينهم القائم مقام والضبطية"الدرك"وكانوا من منشأ بدوي عددهم ما بين "40-30"رجلأ كما شاهدت ما بين أربع إلى خمس عشر مسكنأ بائس المنظر تقع في الحنوب الغربي(قد يكون محل مساكن الجرف الطه حسب وصفه)والعدد نفسه على مقربة منها عند السور الجنوبي، ومن هذا السور يستطيع اﻹنسان أن يرى اﻷرض المنبسطة التي تؤدي إلى سفينة عبور الفرات" (وربما حسب وصفه تكون هذه البيوت مكان مساكن العجيلي والكياص كونها تشرف علي مكان معبر السفينة الواقع على بعد عدة أمتار من مكان الجسر القديم)وأعتقد أن عدد السكان .كان أكثر من الرقم الذي أفصح عنه/زاخاو/..كان سكان الرقة قد هاجروا إلى منطقة الرقة بعد العام (1850م)وهم الرواد أﻷوائل إلى الرقة اح.لذين قدموا من موطنهم اﻷصلي في عدة مسارب ومحاور على النحو التالي:
-محور العشائر التي قدمت من أرض العراق، عبر الوصل ونصيبين واستقرت في البدايا في الرها (أورفة)قسم منها اتجهوا إلى الرقة.
-محور القادمين من مناطق العشارة والميادين، ومناطق العقيدات بمباراة نهر الغرات بإتجاه الرقة.
محور القادمبن من ديار بكر وبراجيك فالرها ومنها إلى الرقة.
-محور القادمين من جهات حماه وحلب ومنبج.
كان استقرار هذه اﻷسر والجماعات القادمة إلى الرقة بعد الربع اﻷول من القرن التاسع عشر لدى قبائل العفادلة والولدة قبل انتقالهم لﻹستقرار في المدينة، وقد تم بينهم ود وارتباط عن طريق المصاهرة والود والتعايش اﻵمن كان قد أطلق على هذه المجموعات إسم(غول) وأصل الكلمة(قول)ﻷن لهجة أهل منطقة الرقة لهجة صحراوية ،إذ أنهم يقلبون حرف القاف إلى غين، أما سبب التسمبة فيعود إلى أن هؤﻻء المهاجربين التفوا حول المخفر العثماني، ويلفظ إسم المخغر بالتركية
(قره قول) وتعني حراس الليل أي الذين يجاورون المخغر وأطلق عليهم إسم(قول)..وحفاظأ على أمنهم وعلى أموالهم وأرزاقهم من اﻷخرين، عمدوا إلى إقامة أحﻻف فيما بينهمم تمنحهم القوة واﻵمن والعيش الهادئ المستقر، وكانت هذه اﻷحﻻف قد ضمت/العجيلي، البليبل، البجري، حمد الجرف، الرمضان آغا، الحسون، الشبلي السﻻمة، المحمد الحسن، القويدر، الحناطة، الشاهين، الشعيب، والحقيقة حدث نوع من الهدوء التام، مما جعل هذه الجموع تركن إلى إستقرار شكل حالة اجتماعية هادئة ومتطورة.. وفي العام(1893م) حدث في الرقة تطور هام وملفت، شكل مظهرأ من مظاهر الحداثة الحضرية في تطور المدينة، أﻻ وهو تمديد خط برقي "هاتف"بين الرقة وحلب، ولما أن عدد السكان بدأ يتزايد والمدينة آخذه باﻹتساع، أصبح من الضروري بناء مسجد واسع كبير يلبي طموحات السكان، وبدأ العمل في بناء الجامع عام(1897م) وألحق به مكتب إداري وغرف مخصصة لطﻻب العلم ويقول اﻷستاذ المرحوم؛/محمد عبد الحميد الجمد/في كتاب(الرقة درة الفرات ص267):..وبلغت نفقاته 156500قرشأ، وسمي بالجامع الحميدي نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني)، وأطلق على الحي الذي يقع فيه الجامع إسم حي الحميدية..في العام (1890م) صدر كتاب/قاموس اﻷعﻻم/باللغة التركية ، نجد فية وصفأ شاملأ ودقيقأ لمنطقة الرقة ومن حيث عدد السكان، نجد فيه رقمأ قد ﻻ يعطي الحقيقة لعدد سكان المحافظة آنذاك ، بسبب أن اﻹحصاءات متعلقة بأمور مالية صرائيبية، لذلك السكان ﻻيعطون أرقامأ حقيقية، وكان عدد سكان الرقة في الكتاب اﻷنف الذكر (7000) نسمة أكثرهم من البدو والفﻻحين، ومن اﻷوصاف التي جاءت في الكتاب أن أراضي منطقة الرقة سهلة وخصبة ومستوبة وفيه الكثير من اﻷشجار المثمرة، والحيوانات الحلوبة والﻻحمة، أما /الغزي/ فيقدم لنا أحصاء لمنطقة الرقة في العام (1892م)(4802)نسمة والمدينة ( 130) نسمة، وأعتقد أن الرقم يشك فيه لﻷسباب التي ذكرناها سابقأ، ومع بداية القرن العشرين الميﻻدي إزداد عدد سكان المدينة وتشعبت النشاطات فيها، وبدات مﻻمح التطور المدني الحضاري تبدو على مبانيها وعلى سكانها..كلمة أخيرة أود أن أشير إلى أن الكثير من القراء سيتوقغون عند كلمات أفراد وأسر، نعم إن سكان مدينة الرقة هاجروا من موطنهم اﻷصلي إلى أﻷراضي التركية وإلى الرقة على شكل آسر، وكل مجموعة من اﻷسر من نفس العشيرة كانت تشكل أفخاذ ومجموعة اﻷفخاذ تشكل البطن أو العشيرة، وهذه المجموعات المتنوعة نصفها أو أكثر هاجر إلى الرقة،ففي بداية اﻷمر سكنوا مع وبجوار العشائر التي سبقتهم في الهجرة إلى منطقة الرقة وسكنت اﻷرياف، ولما تشكل المخفر التركي بالمدينة جاء المهاجرون الجدد على شكل أفراد ،بينما عائﻻتهم ظلت في مكان سكنها باﻷرياف، ولما تجمعوا حول المخفر وتأكدوا من إستتاب اﻷمن جاؤوا بعائﻻتهم وسكنوا المدينة ومنحوها الحياة بعد خراب دام نصف دهر ..وينتهي القرن التاسع عشر الميﻻدي ، ليبدأ القرن العشرين في عام(1900م)،ومنذ هذا التاريخ حتى استقﻻل سورية من اﻹحتﻻل الفرنسي في عام(1946م)

الباحث محمد العزو

تعليقات

المشاركات الشائعة