الشاعر "أشجع السلمي" في الرقة..

كانت "الرقة" في العصر العباسي الاول، محطة إقامة لمجموعة من الشعراء، الذين تقاطروا عليها من كل أنحاء الخلافة، وذلك خلال الفترة التي كانت "الرقة" فيها العاصمة الثانية للخليفة "هارون الرشيد" بعد "بغداد"، وقد تمعت "الرقة" خلال وجوده فيها بأهمية كبرى، إذ عرفت "الرقة" حينها إزدهارا علميا وفكريا وسياسيا وأهمية اقتصادية كبيرة، وفي المجال الثقافي وخاصة الشعر والأدب، وقد انتجع الشعراء قصور "الرشيد" في "الرقة" من كل صوب، حيث كسوه حلل المديح، وأبدعوا في الإشادة بمكارم "الرشيد" وجهاده في غزو الثغور الرومية، وكان هؤلاء الشعراء يلازمون "الرشيد" في مجالسه ولا سيما في قصر "السلام" ب"الرقة"، وفي مقدمة هؤلاء الشعراء "أشجع السلمي".. ومن طيب ما قيل عن "الرشيد" أنه اتخذ من "الرقة" دار إقامة له، بسبب إعجابه بهوائها العليل وطبيعتها الخلابة، ومياها وخيراتها الوافرة، وهو القائل: الدنيا أربعة منازل هي دمشق، والرقة، والري، وسمرقند" البلدانيون"، ولهذا ف"الرشيد" لم يغادر "الرقة" إلا لغزو او لحج او لأمر مهم في "بغداد".. والشاعر "أشجع" هو بن عمرو السلمي أبو الوليد من بني سليم من قيس عيلان، كان من الشعراء المكثرين، وأحد فحول الشعر في عصره، "أشجع" كان معاصرا للشاعر "بشار بن برد"، ولد في "اليمامة" ونشأ في "البصرة"، وانتقل إلى "الرقة" فمات ودفن فيها سنة/195/للهجرة، ويقال أنه دفن في مقبرة تل "زيدان" التاريخية شرقي "الرقة"/4/ كم، وأخباره كثيره .. نزل أشجع "البصرة"، ثم غادرها إلى "الرقة" و"الرشيد" بها، فنزل عند قومه وأبناء عمومته من بني "سليم"، الذين أكرموه وأعزوه وهم في الحمرات، ثم انقطع إلى "جعفر بن يحيى البرمكي" فمدحه، فأعجب بشعره، وقربه من الخليفة "الرشيد"، وقد استرق "الرشيد" السمع إليه وهو ينشد قصيدته التي مطلعها:
تذكر عهد البِيض، وهو لها تِربُ/وأيام يصبي الغانيات ولا يصبو
إلى ملك يسترق المالَ جوده/ مكارمه نثْر ومعروفه سَكْبُ
وما زال هارونُ الرضا بن محمدٍ/ له من مياه النصر مشربُها العذب..
طرب "الرشيد" لما سمع هذه القصيدة وكافئ أشجع بعطوة مضاعفة.. كان ل"أشجع" لقاءات كثيرة مع "الرشيد: في مجالس كثيرة ب"الرقة"، وقد فضله على سائر شعراء بلاطه جاء ذكر هذا الكلام.في كتاب الأغاني..ومن القصائد الجميلة التي مدح بها الرشيد في قصر "السلام" ب"الرقة" أو القصر "الأبيض"، الذي ما زال يحتفظ ببقايا جدره المرتفعة لأكثر من متر واحد، ومطلعها:
قصر عليه تحية وسلام/نثرت عليه جمالها الأيام
فيه اجتلى الدنيا الخليفةُ والتقت/ للمُك فيه سلامة وسلام
قصرُ سقوف المزن دون سقوفه/ فيه لأعلام الهدى أعلام
استحسنها "الرشيد" وطرب بها.. ولما مات !"هارون الرشيد" في مدينة طوس سنة/193/للهجرة، وكان عمره/48/ سنة، حزن عليه "أشجع" حزنا شديدا، فرثاه بأربع قصائد، ومن أشهرها لاميته، التي ذكر فيها عظمة "الرشيد" ومناقبه، وما آل إليه منزله ب"الرقة" من ألم وحزن وأسى، ففي هذه الرثائية نلحظ نبرة الأسى الصادق في وداع الخليفة، فالموت عند أشجع عنصرا ملهما لابتكار الجديد المثير للدهشة والإعجاب من جمال الصور من يرثيه أشجع، منها قوله:
منازل هارون الخليفة أصبحت/ لهن على ساطئ الفرات عويل
منازل أمست في السياق نفوسُها/ سُلبن رداءَ المُلك وهو جميل
لِبْسن حلي المُلك، ثم سُلبنها/فهن- ولا حلي لهن- عُطول
يذكرني هارونَ أثار مُلِكه،/ وذلك ذكْر- إن بقيت- طويل
مات الشاعر "أشجع السلمي" ودفن ب"الرقة، بعد وفاة الخليفة "الرشيد" بسنتين، ويذكر صاحب كتاب الأغاني، مصادفة عجيبة مفادها أن "أشجع" مر مع إخوته "أحمد" و"يزيد" بقبر نديمه"الوليد بن عقبة"، وإلى جانبه قبر "أبي زبيد الطائي" صديق "أشجع"، فوقفوا على القبرين يتحدثون عنهم وذكرات من الماضي، فأنشد "أشجع" وقال:
مررت على عظام أبي زبيد/ وقد لاحت ببلقعتٍ صلود
وكان له الوليد نديم صدقٍ/فنادم قبره قبر الوليد
أنيسا ألفةٍ ذهبا، فأمست/ عظامهما تأنسُ بالصبعيد
وما أدري بمن تبدأ المنايا/بأحمد، أو بأشجع، أو يزيد
ويقول صاحب الرواية في كتاب الأغاني وكان أحد أبناء الشاعر "أشجع" ٠بقوله(.. فماتوا، والله، كما رتبهم في الشعر، أولهم "أحمد"، ثم "أشجع"، ثم "يزيد").. رحمهم الله وطيب ثراهم

تعليقات

المشاركات الشائعة