"البحتري" شاعر الزخرفة البديعة، ورياض "الرقة" الغناء..
البحتري
والرقة البيضاء كالحوْر التي/تختال بين نواعم أقران
.. هو "الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي"، من قحطان في"اليمن"، وأخواله من قبيلة "شيبان" من "ربيعة" العدنانية وكني ب"أبي عبادة"، واشتهر ب"البحتري"نسبة إلى جده الذي كان يسمى "بحتر".. ولد "البحتري" في مدينة "هليوبوليس" عاصمة "سورية" في الفترة السابقة على الإسلام، وتسمى اليوم ب"منبج"التابعة لمحافظة "حلب"، كانت سنة ولادته/205/هجري.. ولد "البحتري"موهوبّا، وتتلمذ على يد "أبي تمام" في مدينة "حمص"، ووصف شعره ب"السلاسل الذهبية"، ولقب بشاعر الغزال الأحور، وهي الفتاة "علوة" السورية التي أحبها، ووصفها في أشعاره :
بيضاء، يعطيك القضيب قوامها/ ويريك عينيها العزال الأحور..
تمشي فتحكم في القلوب بدلها/ وتميس في ظل الشباب وتخطر..
كان "البحتري"شاعرا مثقفا، إذ أنه قرأ كتب التاريخ والسير، كما أنه قرأ الشعر وقام برحلات مكوكية في بلاد المشرق والمغرب، حتى أنه قال:
مالي والأيام، صرف صرفها حالي،/ وأكثر من البلاد تقلبي
أمسى زميلا للظلام، وأعتدي/ ردفا على كفل الصباح الأشهب
فأكون طورا مشرقا للشرق/ الأقصى وطورا مغربا للمغرب
كان البحتري مؤمننا بقضاء الله وقدره وهو القائل:
وأرى همتي تكلفني حمل/ امور خفيفهن ثقيل
ولو أني رضيت مقسوم حظي/لكفاني من الكثير القليل
وفي شعر الوصف كان بارعا، وقد أطرب الخلفاء والناس أجمعين بقوله:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا/ من الحسن، حتى كاد أن يتكلما
كان "البحتري"شاعرا مثقفاً كما أسلفنا درس الأدب القديم والمعاصر له، ثم أنه انتقل إلى "بغداد"واتصل بالمتوكل العباسي. وكانت له تنقلات بين عدة مدن في "الشام"و"العراق"، ومنها إلى"الرقة"وفيها كان له موطن الجمال، حيث أنه وردها مع ممدوحه"أبي سعيد الثغري"، و"للبحتري" في الرقة ومواضعها المتعددة صولات وجولات، وذكريات حافلة ولدتها لقائاته المتعددة الثرية، ومرابع اللهو والسرور، وفي ديوانه الجامع نقرأ له مدائح لبعض رجالات العرب من الأعيان كبني" "ناجية" الدارميين في "الرقة" وغيرهم من الأعيان، وله قصيدة يمدح فيها بني ناجية ووصفه لمراتع غزلان "الرقة"، ومرابعها التي طاف بها ، حيث أنه يوردها بأسمائها، ويكثر بشكل جميل في وصف مروج الرقة الخضراء مثل"مرج الضيازن"، ويصف جمال طبيعتها ورياضها الغناء، التي تختال(.. كالفتاة الناعمة في حللها الزاهية المزركشة فيضحك البهار، وتتفتح عيون شقائق النعمان، وينثر الزهر الفواح عطره، وتبدو غدران المياه الراكدة كالمرايا في نمارق سندسية خضراء)، ومن جميل قصائده سلاسل الذهب نقتطف ما يلي:
والرقة البيضاء كالحور التي/ تختال بين نواعم أقران
من أبيضٍ يقق، وأصفرَ فاقع/ في أخضرٍ بهجٍ،وأحمرَ قانِ
ضحك البهارُ بأرضها، وتشققت/ فيها عيون شقائق النعمان
وتنفست أنفاس كل قرارةٍ/ وتغنت الأطيار في الأفنان
فكانما قطرَ السحابُ على القرى!/ عطراً فأذكاهُ ذكاءَ بيانِ
وتداعبه ذكريات الماضي في عيشهِ ب"الرقتين"، التي لايمكن أن ينساهما مهما تطاولت الأيام والليالي، ففي مدحه "لأبي علي الحمصي" من الأعيان يقول:
وفي كبدي نار اشتياقٍ كأنها/- إذا أُضْرمت - للبعد نارُ حريقِ
لذكرى زمانٍ منّا بنضرةٍ/ وعيشٍ مضى بالرقتين رقيقِ.
و"للبحتري"ممدوح آخر شهير هو "أبي سعيد الثغري"، كان أحد قواد جيوش المسلمين في عهد الخليفتين"المتوكل والمعتصم"، قضى أغلب حياته العسكرية في الثغور الإسلامية فغلبت عليه صفة "الثغري"، وكان قد مدحه "البحتري" في قصيدة وهو في"الرقة"، و"الثغري" بعيدا عنها، ففي هذه القصيدة يصف "البحتري" الحالة المزرية، التي وصلت إليها "الجزيرة"و"الرقة"، وفيها أيضا يصف طبيعة "الرقة"، و"الصالحية" في فصل الربيع بقوله:
أخذتْ ظهور " الصالحية" زينةً/ عجبا من الصفراء والحمراء
نسجَ الربيعُ لربْعها ديباجةً/ من جوهر الأنوار بالأنواء
بكت السماء بها رذاذ دموعها/ فغدت تبًَسمُ عن نجوم سماء
في حُلة خضراء، نمنمَ وشْيَها/ حَوْكُ الربيع، وحلًَةٍ صفراءِ
ما للجزيرة والشآم تبدلا/ بك يا بن يوسف ظلمةً بضياءِ
نضبَ الفراتُ وكان بحراً زاخراً/ واسود وجه الرقة البيضاء
ولقد تُرى بأبي سعيدٍ مرة/ مُلقَى الرجالِ وموسمَ الشعراء
إذ فيظها مثلُ الربيع، وليلها/ مثلُ النهار يُخال رَأْدَ ضَحاءِ
رحلَ الامير محمد، فترحلت/ عنها غضارة هذه النعماءِه
وربما "البحتري" وهو في "الرقة"، قد وقف على بعض المنغصات، التي كانت تسيئ لعامة الناس وتستهين بمصالحهم بما نسميه اليوم الفساد الإداري، فكان يقول شعرا فيه صور لما يراه ويسمعه، وكان لايتوانى عن رفع صوته وصوت الناس وإيصاله إلى أمير المؤمنين، لعله يصغي إلى الشكوى، فيرفع الظلامة عن الناس، ويحقق العدل، ففي قصيدة رفعها إلى الخليفة"المتوكل"، يشكو فيها صاحب بريد "الرقة"، الذي يعامل الناس معاملة غير لبقة ولا يرعى شؤونهم، يقول فيها:
إليك أمير المؤمنين رسالةً/ من الغرب تستقري فجاجَ المشارق
أُعيذك بالنعم من الله أن تُرى/: قُدامىَ جناح المسلمين لفاسق
أُعيرَ بربد الرقتين غضاضة/ بمظطربِ الكفين، رخٌوِ البنائقِ
نعى العدلَ، شرقي البلاد، بجورهِ/ علينا وباع الناس ثم بدانق..
توفي البحتري سنة/897/م..رحمه الله
تعليقات