ربيعة الرقي شاعر الرقة
في أوائل ستينيات القرن العشرين الميﻻدي ، كنت تلميذأ في مدرسة الرشيد اﻹبتدائية ، وفي السنة اﻷخيرة من هذه المرحلة أي في الصف السادس اﻹبتدائي ، كنت أذهب وصديقي المرحوم /محمد آسعد بشير الهويدي / إلى الحفريات اﻷثرية الواقعة شمال السور اﻷثري، وحينها لم نكن نعرف ماهية هذه الحفريات ، لكن كانت تروق لنا وأنها نبش عن الماضي ، لكن أي ماضي لم نكن نعرف ذلك ، وفي أحد المرات ذهبنا إلى هناك ووجدنا مجموعة من الرجال وبعض النسوة ، وما أن اقتربنا منهم حتى عرفنا أنهم.ليسوا من الرقة من خﻻل سماعنا للهجتهم ، وأنهم في رحلة من دار المعلمين في حمص ..أحدهم كان يقف على حافة جدار لصالة طويلة ، وينشد :
حبذأ الرقة دارأ وبلد
بلد ساكنه ممن تود
وفجأة التفت إلينا وسألنا هل أنتم من الرقة ؟ قلنا له نعم، قال هذه بقايا آثار قصور ومنازل هارون الرشيد ، أتذكر ذلك جيدا كوني كنت إبن الخامسة عشر ، ﻷنني دخلت المدرسة وعمري تسع سنوات ، كبرت وبيت الشعر الرقة دارأ وبلد اضمحل من ذاكرتي كما اللغة التي ﻻتستعمل تموت ، وبعد ربع .قرن من الزمان ، كان ذلك في أوائل ثمانينيات القرن الماضي التفيت بالراحل اﻷستاذ /مصطفى الحسون / رحمه الله وأعطاني مخطوطة له عن تاريخ الرقة في عصر الرشيد ، ومن حينها كان للشاعر / ربيعة الرقة / حضور في عقلي وذاكرتي
ربيعة الرقي واحد من أشهر شعراء القرن الثاني الهجري ، فبعد أن شيد الخليفة المنصور مدينة الرافقة في سنة(155هج = 772م) ، ازدهرت الحياة فيها ، وبعد إنتقال الرشيد إليها نمت وترعرعت شجرة الثقافة ، وذاع صيت الرقة في كل اﻷمصار ، في هذا الجو المفعم بالفكر الثقافي. واﻷدبي الذي تجاوز حدود الخﻻفة ، نبغ الشاعر /ربيعة بن ثابت بن لجا بن العيزار بن لجا اﻷسدي اﻷنصاري الرقي/ المولود سنة(198 هج = 814 م )، وفي هذه المرحلة المجبدة، عاصر فيها ثﻻثة من أشهر خلفاء الدولة العباسبة ، وهم المهدي والرشيد واﻷمين ، وربيعة الرقي رقي المولد والنشأة عاش كل مراحل حياته في الرقة ، وقليل ما كان يفارقها ، إﻻ في حالة إستدعائة من أحد الخﻻفاء ، وكان قد استدعاه الخليفة المهدي في أول عهده ومدحه في قصائد ضاعت لﻷسف الشديد ، ويتميز الرقي بخصيلة ﻻ نجدها عند الشعراء اﻷخرين ، أﻻ وهي أنه كان ﻻيكثر من التردد على بغداد وﻻ على أبواب قصور الخلفاء وأﻷمراء ، وفي جميع الحاﻻت التي كان يمدح.فيها الخلفاء وأﻷمراء كان مضطرأ .قالوا فيه اﻷوائل، أنه كان من المكثرين المجدين في قول الشعر وان أكثر شعره قد ضاع ، وما وصلنا منه القليل القلة ، أغلبه نجده متناثر في كتب شتى متنوعة العناوين ، وأجمع نقاد العصر الحديث على أن ما جمع من شعره بحدود مئتين واثنين وثمانين بيتأ ، ويقول النقاد أن ديوانه المفقود يقدر بأربعة آﻻف بيت ، حسب ما جاء في في كتاب / ابن النديم /" الفهرست"، وسبب هذا الضياع كان نتيجة للمآسي والكوارت التي تعرضت لها الرقة عبر العصور ، على أيدي الخوارج والقرامطة والخوارزمية والتتار، وقال عنه أبي / الفرج اﻷصفهاني / : ( عن دعبل قال : : قلت لمروان بن أبي حفصة : من أشعركم ، جماعة المحدثين ، يا أبا السمط ؟ فقال : أشعرنا أيسرنا بيتأ . فقلت : ومن هو ؟ قال : ربيعة الرقي الذي يقول ؛
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم ، واﻷغر بن حاتم
وكفى بربيعة شهرة ومكأنة ذلك الوصف المتقدم ) ( درة الفرات ، د. سهيل زكار .1993م) ومن اﻷوائل الذين أعجبوا بشعر ربيعة / ابن المعتز /وخاصة شعر الغزل ، وبهذا الخصوص يقول : (فأما شعره في الغزل فإنه يفضل على أشعار هؤﻻء) ويقصد بهؤﻻء شعراء عصره، وبضيف ابن المعتز(وعلى كثير من قبله)..ومن شعره في العزل قوله:
ما أبالي من لحاني
فيك ، أو رام انتقاصي
ولفد عذبت روحي
فمتى منك خﻻصي
فاتقي الرحمن فينا
واحذري يوم القصاص
مشهدأ يؤخذ باﻷقدام
فبه . والنواصي
سائلي عن شعراء الناس
هل غاصوا مغاصي
شعر سلس وأطيب من العسل المنقى هكذا وصفه ابن المعتز..ويقول أيضأ(فهذا - ﻻيسمع مثله لشاعر رقة وغزلأ)(ابن المعتز ، طبقات الشعراء)، ويقول المؤرخون إن شعر ربيعة صار يعرف في أماكن بعيدة..كان ربيعة قد فقد بصره وهو صغيرأ ، ورغم.ذلك كان يتنقل بين الرقة وبغداد ، حيث يلتقي بالخليفة والشعراء كأبي العتاهية وغيره
ومرة سافر إلى مصر مع واليها /يزيد ابن حاتم /، وعاش بقية حياته في الرقة في يسر وأمن ، لقناعته المطلقة بأن وجود ما يكغي من مؤونة للعيش نعمة من الله ، وهكذا عاش ربيعة بقية حياته برضأ وطيب ، وقال :
وﻻ تسأل الناس ما بملكون
ولكن سل الله واستكفه
وكل مقل وذي ثروة
فإن المنية من خلفه
هذه بعض المعالم البارزة في حياة ربيعة الشعرية ومنزلته اﻷدبية واللغوية ، وأثره الكبير في تطوير معالم الشعر العربي ورفده الثر للحياة اﻷدبية والفكرية في زمانه، وجأء قي كتاب ( درة الغرات ، ص ، 228 )(..فلقد خاض هذا الشاعر تجارب شعرية صهرت مشاعره فعبر عنها بسهولة ويسر، وعذوبة ورقة) .. الرقة مربية معطائة ، ورغم كل التغيرات الديموغرافبة التي عرفتها نتيجة الكوارث والحروب التي مرت يها ، ظل من عاش على أرضها مرتبطأ بها ، أحبته وأحبها ، وفي أصعب الظروف وأقساها ، كانت تدر عليه من خيراتها ما يكغيه مؤونة العيش ، فهي جبلته بحبه لها وحبه لها ، وأهلها كانوا كما هم اليوم خميلة غناء ، وقد أشاد الشاعر الصنوبري
بنبلهم بقوله :
رقة الرقتين فيه ، وظرف
الرافقبين فيه يفطر فطرا
طاف هذا الجمال في الخلق حتى
حين صار الجمال فيه استقرا
وربيعة الرقي كان محبأ لبيئته الرقية ، وللرقة إلى حد الهوى وأثرها على غيرها من المدن ، وفي كل أشعاره ﻻ نجد أثرا ﻷحداث عصره ، رغم إتصاله بالخليفة المهدي وبالخليفة الرشيد وببعضى اﻷمراء ، ويشد المؤرخون وكتاب عصره على أن ما بقي من شعره الضائع ، صورة شعر الغزل هي الغالبة عليه ، ثم من بعده المدح والهجاء ، ثم بقية اﻷغراض الشعرية المعروفة ، وبدراسة البقية الباقية من شعره ﻻ نجد أثرأ لﻷغراض الشعرية من فخر ، ورثاء ، ومنادمة الخمرة كما كان هو معروفأ آنذاك لدى أغلب الشعراء ..والقصيدة التالية المكونة من خمسة أبيات ، يصف فيها مدينته الرقة مفضلأ إياها على باقي المدن ، من حيث ببئتها الطيبة ومناخها المعتدل ، ورياضها الجميلة ، وحدائقها الغناء التي تتنقل فيها شتى أنواع الطيور ، وجداولها ، واﻷنهار المحيطة بها ، مثل قناة النيل وقناة سروج، وخندقها المائي ، كآنها جميعأ سورأ يحمبهأ كما هو سورها المبني حولها على أرض الواقع إذ يقول في هذه القصيدة :
حبذا الرقة دارأ وبلد
بلد ساكنه ممن تود
ما رأينا بلدة تعدلها
ﻻ، وﻻ أخبرنا عنها أحد
إنها برية بحرية
سورها بحر ، وسور في الجدد
تسمع الصلصل في أشجارها
هدهد البر ، ومكاة غرد
لم تضمن بلدة ما ضمنت
من جمال ، في قربش وأسد
ومما وصلنا من شعره المتبقي قطعة أخرى مرلفة من ستة أبيات ، عكس فيها شكﻻن متمازجان ، هما الوصف والغزل في سﻻسة ورشاقة لغظية ، وفي هذا الوصف الجميل يخص الشاعر تغاحة حمراء من الندى ريانة ، فبدت كالعروس في زهوتها ، ولربما هذه التفاحة تكون آحد رياض الرقة وخمائلها الزاهرة :
وتغاحة غضة
عقيقة الجوهر
ندت بماء الرببع
في رووضها اﻷخضر
فجاءت كمثل العروس
في ﻻذها اﻷحمر
ذكرت بها الجلنار
في خدك اﻵزهر
فملت سورأ بها
إلى القدح اﻷكبر
وأنت لنا حاضر
وأن كنت لم تحضر
هذا الوصف الدقيق وقرائن أخرى من شعر ربيعة ، يحتار المرء فيهمأ أنه وصف مبصر وليس وصف ضرير ، وهذا يقودنا إلى حالتين ، أما أن يكون ربيعة كان مبصرأ في شطر من حياته - آي كانت المدة الزمنية - ، أو أنه كان يستمد مادة الوصف هذه من شعراء مبصرين ، ممن يسمع شعرهم في الوصف ، ومع ذلك نقول وله قلب مبصر كما يقال ، وليس هذا بغريب فشأنه شأن بشار وأبي العﻻء ..كان ربيعة متعصبأ ومتعلقأ بوطنه ومدينته ، فرقيته * خط.أحمر ؛ وليس من الممكن التخلي عن نسبة "رقي" ، وفي قصيدة يتغزل فيها على لسان حبيبته قال :
قالت : تعال إذا ما شئت ، مستترا
والحكم حكمك "يارقي" فاحتكم
أستقغر الله ، قد رق الفؤاد وما
بيني وبينك يا "يارقي" من رحم
قيل ذات مرة أن جواري قصر الخليفة المهدي أردن أن يسمعن ربيعة الرقي ،فذهب من الرقة إلى بغداد ، حتى صار بين يدي الخليفة المهدي ، وأنشده بعضا من شعره ، وقال :
يا أمير المؤمنين ، لله
سماك اﻷمينا
سرقوني من بﻻدي
با أمير المؤمنين
سرقوني فأقض فيهم
بجزاء السارقينا
قيل فضحك.الخليغة وضحك ربيعة
أخيرأ وليس آخرأ ، ربيعة الرقي هو الشاعر الرقي الذي لم يرتق أحدا من الشعراء الرقيين إلى مكانته ﻻ شهرة وﻻ شاعرية وﻻ سبقأ ، لقد حظي ربيعة بمكانة عالية في كتب اﻷدب وتراجم الشعراء وطبقاته ، وإذا كان هناك شعراء أخرونظهروا فيما بعد
( فإنما هم كالنجوم بالقياس إلى البدر) رحم الله ربيعة الباحث محمد العزو
تعليقات