الرقة في عيون شعراء العصرين الأموي والعباسي..
الرقة في عيون شعراء العصرين الأموي والعباسي
الرقة العظيمة تغنى بها شعراء العصرين الأموي والعباسي، على طول امتداد عمرها المجيد المديد ، منذ بنيانيها في العصور السابقة على الإسلام ، ومنذ أن شيد الخليفة المنصور الرافقة ،حيث حفظت لنا الحوليات الأدبية أجمل الأبيات الشعرية الجميلة، والمعبرة لشعراء العصرين الأموي والعباسي، الذين قالوا بها أجمل الكلمات وأروعها، وأعذب المفردات وأصدق المعاني.. الرقة تفاحة حمراء قالها شاعرها وابنها البار "ربيعة الرقي" في قصيدة يمزج فيها بين الوصف والغزل في ألفاظ رشيقة وجميلة يوصف فيها رياض "الرقة" وبساتينها الغناء:
وتفاحة غضة/ عقيقة الجوهر
تندت بماء الربيع/في روضها الأخضر
فجاءت كمثل العروس/في لاذها الأحمر
وعطاءات الله من الثمار خير وبركة كذلك هي الرقة الحوراء تفاحة يانعة حمراء اخضلت بماء الربيع تشتهيها الانفس على مدى الأيام.. ولما بنى المنصور مدينة "الرافقة" بالقرب من "الرقة البيضاء"، وما لبثت هاتان المدينتان "الرقة البيضاء والرافقة" ، أن اتصل بناؤهما، فأطلق عليهما معا إسم"الرقتين" قال البحتري:
لذكرى زمان بان منا بنظرة/وعيش مضى بالرقتين رقيق.
ومع مرور الزمن خربت "الرقة البيضاء"، وأخذت مدينة "الرافقة" إسمها ودورها، وصار يطلق عليها إسم "الرقة"، ولما بنى الخلبفة "هشام" مدينة "واسط الرقة" على الضفة اليمنى "للفرات" ، وحفر فيها قناتي "الهني والمري" ذكرهما الشاعر "جرير" في مدحه "لهشام" فقال :
أوتيت من حدب الفرات جواريا/ منها الهني، وسائح في قرقري.
"الهني والمري" بقيا حتى العصر العباسي، وقد ذكرهما "الصنوبري"، فقال:
بين الهني إلى المري/ إلى بساتين النقار
فالدير ذي التل المكلل/بالشقائق والبهار
الدير هو "دير زكى" ذي التل ويقصد به تل البيعة
كون.هذه الأماكن كلها متقاربة ومتصلة بجميع الرقات: الرقة البيضاء، والرقة السوداء، والرافقة، ورقة واسط.. وقد ذكر الشعراء بعض الأماكن والمراكز المتصلة بالرقة، التي صار يطلق عليهاإسم الرقة.، مثل دير زكى وهو أحد أديار السريان الذي كان ملاصقا لتل البيعة من الجهة الشرقية، وقد مر ذكره عند الشاعر الصنوبري ، كما ذكره الشاعر الأموي عبيد الله بن قيس الرقيات، الذي كان ينزل الرقة في بعض أيامه، فيقول:
*أقفرت الرقتان فالقلس/*فهو كأن لم يكن به أنس
فالدير أقوى إلى البليخ كما/أقوت محاريب أمة درسوا.
وكان الخليف "هارون الرشيد" قد نزل هذا الدير واستطابه وبر أهله، وقال فيه شعرا كقوله:
*-سلاما على النازح المغترب/ تحية صب به مكتئب
*-غزال مراتعه بالبليخ/ إلى دير زكى، فجسر الخشب
ولأبي بكر الصنوبري مجموعة من الأبيات الشعرية ومقطوعات في دير زكى، أوحت به الطبيعة الجميلة المحيطة بهذا الدير ، وبساتينه ونهيراته وأدب أهله يقول:
*- اراق سجاله بالرقتين/ جنوبي صخوب الجانببن
كان عناق نهري دير زكى/- إذا اعتنقا- عناق متيمين
أيا منتزهي في دير زكى/ ألم تك نزهتي بك نزهتين .
أما الصالحية وهي حي من أحياء الرقة الجميلة تقع بجانب دير زكى من جهة الشرق، اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي من بني العباس، وكانت ذات بساتين وقصور جميلة، وقد ذكرها الشاعر منصور النمري في قوله:
*-قصور الصالحية كالعذارى/لِبسنَ حليهن ليوم عرس
تقنعها الرياض بكل نور/وتضحكها مطالع كل شمس
ولبطياس والعوالي، وهما من أحياء الرقة واقعان بالقرب من دير زكى والصالحية شرقا لتجاورهما ، وكانت من من الأحياء الجميلة وكلاهما من المنتزهات الريانة ، وقد أغرت الشعراء وطلاب المتعة واللهو للتنعم بظلالها الوارفة ومياهها العذبة. فقال فيهما الصنوبري:
*-إني طربت إلى زيتون بطياس/ فالصالحية ذات الورد والأس
من ينس عهدهما يوما فلست له/-وإن تطاولت الأيام- بالناسي
يا موطنا كان من خير المواطن لي/لما خلوت به ما بين جلاسي.
أما البليخ ميناء حواضر التاريخ ، وعوسج الماضي والحاضر، فقد تغنى به الشعراء وبما حوله من بساتين وحدائق غناء، وببساتبن الزيتون. ومن هؤلاء الشعراء نذكر ابن أحمر الباهلي، والأخطل، وابن صفار، وأبي نواس، والبحتري، وابن الرقيات، ومسلم ابن الوليد، وأشجع السلمي.. قالوا في البليخ شعرا جميلا تنبئ عما خلفه البليخ، بما حوله من أثر جميل في نفوس الزوار والمرتادين، ومن أجمل ما قبل في البليخ قول أبي نواس الذي عاش حول البليخ ، ثم غادره وأهله إلى العراق مكرهين يقول:
*-على شط البليخ وساكنيه/سلام متيم لقي الجماما
اما مسلم ابن الوليد فيقول:
*-ألم تر أني بأرض الشام/أطعت الهوى وشربت العُفاراُ
لقد كدت من حب خمر البليخ/أن أجعل الشام أهلا ودارا.
وكان لقناة النيل حظ وافر في شعر محبي الرقة الحوراء، هذه القناة من أنهار الرقة، التي حفرها حمورابي في الالف الثاني ق.م من غرب الرقة، ثم جدده هارون الرشيدة، وكان هذا النهر يروي مدينة الرقة أثناء ابتعاد الفرات جنوبا، ويروي المزارع شرق المدينة.. قال فيه ابي بكر الصنوبري:
*-وقت ذاك البليخ يد الليالي/وذاك النيل من متجاورين
ومن قرى الرقة القريبة التي تغنى بها الشعراء ، وخلدوها بقصائدهم نذكر منها: دامان التي اشتهرت بتفاحها الاحمر، وكذلك موضع المديبر، وتل زاذان، ومرج الضيازين، والمازمان، والرابية، والرصافة، والمصلى، وغيرهما من المواضع الرقية، ومما ذكره الشاعر الصنوبري، وغيره من الشعراء . إذ يقول الصنوبري:
*-يضاحكها الفرات بكل فن/فتضحك عن نضار ولجين
كأن الأرض من حمر وصفر/عروس تُجتلى في حُلتين
هذا وقد سكن الرقة مجموعة من الشعراء ، الذين قالوا بها أشعارا جميلة، منهم الشاعر الملقب بأبي هِفان المهزمي، الراوية والعالم بفنون الشعر والأدب، ذكر الرقة البيضاء في قوله بمدح ابي العباس أحمد بن ثوابة الكاتب من كبار الولاة في العصر العباسي، فقال:
*-نفسي فداء أبي العباس من رجل/لم ينسني قط في نأي
يقري-وبالرقة البيضاء منزله-/ من بالعراقين من عجم ومن عرب
في القرن الرابع الهجري ظلت الرقة في ابهى حلتها، إذ بقيت محافظة على مكانتها كمدينة، ذات موروث كبير ومعمورة بخيراتها وأمجادها، مزهوة بأبنائها الكرام، الذين هم ينابيع الندى، هذا الإطراء الجميل بالرقة والرقيين، جاء على لسان الشاعر أبي فراس الحمداني بقوله:
*-المجد بالرقة مجموع/ والفضل مرئي ومسموع
إن بها كل عميم الندى/يداه للجود ينابيع
وكل مبذول القٍرى، بيته/ على عُلا العلياء مرفوع.
وأثناء ثورة النزاريين على سيف الدولة وملاحقته لهم، حيث تابع مسيرته حتى نزل الرقة يريد الإيقاع ببني نمير وعفوه عنهم فيما بعد، حيث مدحه المتنبي بقوله:
*-ومال بها على" أرك"و" عرض"/ وأهل الرقتين لها مزار
وأجفل بالفرات بنو نمير/ وزأرهم الذي زأروا خُوار
ومن الشعراء الذين ذكروا الرقة في شعرهم الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات القرشي، وكان من المناصرين للزبيريين، وقبل بلوغه سن الثلاثين ارتحل إلى الرقة، وهو في الرقة سمع بمقتل مجموعة من أهله في معركة الحرة، فرثاهم في قصيدة،ونقم على بني أمية.. وبعد موت يزيد تحولت أرض الجزيرة إلى ميادين حروب بين قيس وتغلب، وبعد مقتل مصعب بن الزبير وزوال دولة الزبيريين، ناشيد بن قيس الرقيات العفو من بني أمية، واستشفع إلى عبد الملك بعبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد ذلك مدح بن أبي طالب بقصيدة وهو في الرقة يقول فيها:
*-ذكرتك إذا فاض الفرات بأرضنا/وجاش بأعلى الرقتين بحارها
وفي قصيدة مدح أخرى بها عبد العزيز بن مروان قال:
*-اهلا وسهلا بمن أتاك من الرقة/ يسري إليك في سخيه..
ونرى شاعرنا يشير إلى ما أحدثته الفواجع والمواجع والحروب في الجزيرة الفراتية بقوله:
*- اقفرت الرقتان فالقلسُ/فهو كأنه لم يكن فيه أنس
فالدير أقوى إلى البليخ كما/اقوت محاريب امة درسوا
وهذا الشاعر الكبير ابي تمام الطائي في القرن الثالث الهجري، كان يتردد على الرقة من الموصل يمدح أجوادهما فيقول في إحدى مدائحه:
*-بالشام أهلي، وبغداد الهوى،وأنا/بالرقتين، وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت/حتى تشافه بي أقصى خرسان
والشاعر البحتري وهو في الرقة مدح بني ناجية، وهم قوم من أجواد العرب، ووصفه لمرابع الرقة التي نزلها وطاف بها، حيث يسترسل في وصف مروج الرقة الخضراء وجمال الطبيعة فيها التي تختال كالفتاة الناعمة الحسناء في حللها الزاهية المزركشة فيقول:
*-والرقة البيضاء كالحور التي/تختال بين نواعم أقران
من أبيض يقق، وأصفر فاقع/في أخضر بهج، وأحمر قان
ضحك النهار بأرضها، وتشققت/فيها عيون شقائق النعمان
وها هو البحتري يمدح أبو سعيد الثغري أحد قواد جيش المعتصم ، وقد مدحه البحتري في قصيدة وهو في الرقة قال فيها:
*-ما للجزيرة والشام تبدلا/بك يا بن يوسف ظلمة بضياء
نضب الفرات وكان بحرا زاخرا/ واسود وجه الرقة البيضاء
وكان البحتري وهو بالرقة قد وقف على أعمال فيها بعض المنغصات ، التي تسيئ إلى جمهرة الناس وتستهين بمصالحهم، فكتب بشكوى إلى الخليفة المتوكل لرفع الظلامة، وتحقيق العدل والإنصاف. وهذا ما عبرت عنه قصيدته للخليفة يقول فيها:
*-اعير بريد الرقتين غضاضة/بمظطرب الكفين، رخو البنائق
نعي العدل، شرقي البلاد،بجوره/وباع الناس ثم بدانغ
كانت هذه شكوى على صاحب البريد بالرقة.. أما ابا بكر الصنوبري الذي تغنى كثبرا بالرقة، وقد سكن الرها أيضا وكان يجتمع في دكان سعد الوراق مع مجموعة من ادباء الشام، والصنوبري صاحب الزهريات والروضيات الرقية. من ديوانه نقتطف ازاهير الرقة وورودها، حيث أنه رأى العيش في الرقة أطيب عيش وفي هذا المعنى يقول:
*-خلع ابن الصنوبري العذارا/وغدا، فهو لا يرى ذاك عارا
وجدير بصفوة العيش من كانت له الرقة المصونة دارا
غازلتنا غزلانها عن عيون/سلبتنا الأسماع والابصارا
ما راينا من قبل تلك ظباءُ/أبرزت من جيوبها أقمار
وفي قصيدة أخرى يصف الطبيعة بأزهارها وأشجارها وحدائق رياضها الغناء في الرقتين بقوله :
*-سقى جنبات الرقتين مزمجر/سكوب العزالي كلما عن بارقة
ترى الزهر كالحلي إذا بدا/يلوح عليه دره وعقائقه
وغصن على غصن تميله الصبا/كما مال إلف نحو إلف يعانقه
حدائق روض يحسر العين حسنها/وما كان حسن الروض لولا حدائقه
ومن أجمل ما قاله الصنوبري ابيات غزلية رقيقة، نفذ وانتقل منها إلى الإشادة بطباع أهل الرقة الظريفة، حيث يقول :
*-بأبي من لو أنني ذبت ضرا/فيه، ما قلت إنني ذبت ضرا
من له الجلنار أصبح خدا/وله الأقحوان أصبح ثغرا
طرة قد يخالها الليل ليلا/وجبين يخاله الفجر فجرا
ذاك ظبي رْبي بباب الروابي/من أجل الظباء عندي قدرا
رقة الرقتين فيه، وظرف/ الرافقين يقطر قطرا
طاف هذا الجمال في الخلق حتى/حين صار الجمال فيه استقرا
وأنشد الشاعر أحمد بن سيار فقال:
*-زمن باعلى الرقتين قصير/لم يثنه للحادثات غرير
اما الشعراء من أبناء الرقة. كانت الرقة في عيونهم الام الحنونة، التي حمتهم مفضلين إياها على سائر المدن. شاعرها المجيد ربيعه الرقي قال عنها:
*-حبذا الرقة دارا وبلد/بلد ساكنه ممن تود
ما رأينا بلدة تعدلها/لا، ولا أخبرنا عنها أحد
إنها برية بحرية/سورها بحر، وسور في الجدد
تسمع الصلصل في أشجارها/هدهد البر، ومكاء غرد
لم تضمن بلدة ما ضمنت/من جمال، في قريش وأس
@- مازال مجال القول عن الرقة و، وتراث الرقة الشعري كبيرا ، وكثيرا من الأشعار قد ضاعت ولم يصلنا إلا النادر القليل، ومع ذلك نقول إن التراث الذي عرفته الرقة في عصورها الزاهرة، كان تاج آخر يزين مفرقها، وعقد جميل يرصع جيدها، وإن ما ذكرناه عن كيف بدت الرقة في عيون شعراء أزمانها المجيدة؟، نبع كاف لإرواء ذلك الماضي الزاهر، الذي يزداد ألقا، كلما تم العثور على كتب جديدة منسية، وكلما ساعدنا النبع المتدفق على آظهار دوواين من الشعر خافية لك المجد يا حوراء..
المصادر:
*-: ديوان ابن قيس الرقيات 100/99
*- طبقات الشعراء د. تحقيق عبد الستار فراح. دار المعارف..1956م
*-أحسن التقاسيم للمقدسي.ص385..ط
1906م
*- مدن فراتية . عبد القادر عياش
تعليقات