تاريخ وقصة مدينة (هجرة القبأئل العربية إلى الرقة بعد عام /1260 ميلادي

هجرة القبائل العربية إلى الرقة

"الرقة تاريخ وقصة" هو عنوان لبحث في تاريخ وضع الرقة بعد الغزو المغولي لها وهجرة العشائر العربية إليها ، ففي البداية سيكون الحديث مع هجرة العشائر التي سكنت المدينة بعد عام /1850م/(عشائر القول) ، ومن ثم الحديث عن هجرة القبائل والعشائر العربية الأخرى .. بداية سؤال وجيه يتبادر ألى الذهن يقول ، هل حقيقة أن
"الرقة" بعد غزو المغول لها ، وتدميرهم ثقافتها الحضارية وبنيتها الداخلية ، بقيت قروناً طويلة أرضاً خراباً تسفيها الرياح وسكنتها الغربان ، وهجرها البشر؟! وهل صحيح أنها لم تكن حتى الماضي القريب مأهولة بالسكان؟!! سؤالان أثار الكثير من الجدل بين أوساط الباحثين في تاريخ "الرقة".. بعد الغزو المغولي لها في حدود عام /1321/ م ، الموافق /731 /هـ، زار أبو "الفداء" "الرقة"، وقد ذكرها في تقويمه حيث يقول : «"الرقة" في زماننا مدينة خراب ليس فيها أنيس»، وبعد أكثر من قرنين وربع من زيارة " أبي الفداء " لمدينة "الرقة" لم نعرف عن أخبارها شيئاً يذكر ، حتى جاء عام /1574/م حين زارها الطبيب "ليونهارت واوولف"، حيث يَذكرُ في تقرير له وصفاً لقصر في المدينة و/1200/ جندي من جنود السلطان التركي ، وكانت المباني والأسوار بحالة يرثى لها ، ويبدو أنَّه بعد التدمير الذي لحق بالمدينة إثر الغزو المغولي لها قد بنيت بعض مبانيها ، وأنه حدث استيطان جديد ربما وقع مع إنشاء المراكز التركية ، وكنقطة ومحطة هامة لطرق الاتصال بين سورية والعراق ولم تكن حينها ذات أهمية تذكر ، وحسب رأي الرحالة "ليونهارت" فإنَّ التجار فضلوا أنْ يستعملوا الطرق التجارية ذات المسار الشمالي ، المارة بالبيرة "براجيك" حيث تجتاز الفرات وتتابع طريقها إلى "أورفه" (أديسا)..
وفي/1650/م قام الرحالة التركي "أولياء جلبي" بزيارة إلى "الرقة"، وقد أكد في كتابه "سياحة ناما" أنَّ "الرقة" كان فيها سكان ثابتون، ويذكر أيضاً أنَّ "التركمان" قد دمروا المدينة وعلى أثرها أصبحت "الرقة" تابعة لأورفا (أديسا)، وحسب النظرية الشعاعية التي يقول بها علماء الآثار والتاريخ ، فإنَّ "الرقة" كانت مكاناً للِّقاء الشتوي للعرب والتركمان ، بينما هي في شهر تموز خالية تقريبا من السكان ، وكانت "الرقة" في تلك الفترة وحتى في الفترات اللاحقة ، مكاناً قصياً لذلك نجد أنَّ الرحالة الأوربيين المتأخرين ، الذين كانوا يأتون عبر "براجيك" و"أورفا" والمنطقة ، لم يذكروا "الرقة" رغم وجودها ، ومن جهة أخرى نجد أنَّ بعض الرحالة الذين زاروا المنطقة في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين ، قد رسموا "الرقة" على خرائطهم ، مثل الرحالة "ريتشارد بوكوك" و"ج.م كيناير"، وهذا يعني أنَّ المدينة مازالت حية رغم خلوها من السكان، إنَّ الانقلاب الجديد في حياة مدينة "الرقة" قد حدث في بداية القرن التاسع عشر الميلادي ، حيث بدأ الاستيطان الجديد لمجمل وادي الفرات والجزيرة السورية ، إذ كانت البداية متواضعة ومع مرور الزمن تكونت مجموعة من المدن من بينها "الرقة".. الرحالة "زاخاو" زار "الرقة" عام /1879/م حيث أشار في كتابه (رحلة إلى سورية وبلاد الرافدين) أنه كان هناك مجموعة من السكان يقطنون في دور سكنية في مختلف مناطق المدينة القديمة ، وأن عددهم يقارب مئة شحص بما فيهم الجند الأتراك وهم من البدو ويقول : «أعتقد أنَّ التجار هاجروا إليها من مدينة "حلب"» ، أماَّ الرحالة الليدي "آن بلينت" التي مرت في "الرقة" عام /1878/ م أكدت أنها لم ترَ سكان داخل أسوار المدينة القديمة, فهي بذلك محقة لأنها مرت المدينة"الرقة" أثناء فترة الصيف ، والسكان في هذا الوقت يكونون خارج المدينة, فالبعضٌ منهم يمارس زراعة الخضار على ضفاف النهر "القبيات" ويسكنون في بيوت مشيدة من مادة القصب والسوس (سيباط), والبعض الأخر من السكان يكونون قد رحلوا مع قطعان ماشيتهم إلى منطقة الشمال ، سعيا وراء مساقط الغيث ومواضع العشب والكلأ, وفي نهاية فصل الصيف يعودون أدراجهم إلى المدينة ، أما انطباع عالم الآثار "أرنست هرتسفلد" الذي زار "الرقة" في عام /1907/م فقد أكد بأنها (مدينة حديثة جداً) ، وأنها كانت تضم مركز بريد وبرق , وأن سكان المدينة كانوا يعيشون من التجارة مع العرب المحيطين بالمدينة من صناعة قصب السكر ومن حفريات اللقى الأثرية ، وبعد خمس سنوات من زيارة "هرتسفيلد" للرقة ، وفي شهر أيار من عام /1912/م قدم إلى "الرقة" الرحالة التشيكي "لويس موزيل"، وقد أكد أنه وجد فيها سكاناً عددهم /300/عائلة, ولكن هذا الرقم قد يكون نتيجة لتقديرات غير مؤكدة والسبب في ذلك عدم وجود استقرار سكاني في المدينة في تلك الفترة الزمنية ليشكل مساحة أفقية واسعة
.. أما الاستيطان المبكر في محيط المدينة القديم والريف ، فقد حدث أن عشائر "الأبي شعبان" والعشائر العربية الأخرى"مع حفظ الأسماء " استوطنت منطقة "الرقة" منذ عام /1650/م , وكانت منازلهم على شواطئ الفرات ، امتداداً من الحدود الإدارية لمحافظة "الرقة"، مع "دير الزور" شرقاً، إلى منطقة "شمس الدين" غرباً, وعلى ضفتي نهر البليخ شمالا ، ويشكل هذا الاستيطان الهجرة الأولى لمنطقة "الرقة" بعد تدميرها من قبل الغزو المغولي في عام /1259/م». وهذه القبائل والعشائر هي : قبيلة"الأبي شعبان "
، وقبيلة عنزة، وقبيلة جيس وعشائر المعامرة و البوجابر، والعجيل والبوخميس، والبازات والبوعتيج، والمشهور والحليبين، والمجادمة والبوجمال وغيرهم.. وهذه القبائل تعود في أصلها ونسبها إلى الأرومة العربية الأصيلة
, وأن كل القبائل العربية منذ الألف الثالث ق.م ، هي في حالة حركة دورانية مستمرة, بعضها تحضَّر واستقر في القرى وفي الحواضر , وبعضها الآخر استمر في حركته الدورانية ، كما أن تدوين تاريخ أي قبيلة أو أي عشيرة ، يتطلب من الباحث أو المؤرخ امتلاك وثيقة ، يعتمد عليها في صحة ما يقوله ، لذلك فالحديث عن هجرة "الأبي شعبان" والقبائل والعشائر الأخرى إلى سورية بشكل عام و"الرقة" بشكل خاص، يتطلب أن يكون بين أيدي المؤرخ أو الباحث مثل هذه الوثائق، ورغم كل الصعوبات التي تصادفنا, فإننا نستطيع إلقاء الضوء على مثل هذه الهجرات, ولكن بحذرٍ شديد ، وخلافاً لكل ما قيل حول هجرة هذه القبائل, ومن أنها هاجرت إلى أرض الرافدين في نهاية القرن الثاني الهجري , فإننا نقول, مع المعذرة الشديدة, أن أغلب هذهَّ القبائل كان لها تواجد على أرض العراق وسورية منذ أكثر من ألف سنة أو أكثر قبل القرن الثاني الهجري .. أما الهجرة الثانية إلى أرض الرقة فقد حدثت في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي ، عندما قدمت موجة كبيرة من قبائل "عنزة" (الفدعان) من الجزيرة العربية ، هرباً من الجدب والقحط ، الذي حلَّ بأرض "نجد" و"الحجاز" ، وقد استقرت هذه القبائل على النحو التالي : "ضناْ" الولد إلى الغرب من نهر البليخ, بين "مسكنة" وتل "أبي هريرة" ومخفر "الحمام"، في حين أنَّ "ضنا ماجد" استقروا في الشرقي ، أي شرقي نهر البليخ , وكانوا في الشتاء يعبرون نهر الفرات إلى الجهة الشامية للنجعة ، أماَّ الهجرة الثالثة إلى مدينة "الرقة" كانت في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي, أي في بداية عام /1850/م، وكانت أوائل المجموعات المهاجرة ، عبارة عن مجموعة من الأسر وليست على شكل عشائر , استقرت في البداية بجوار العشائر القاطنة في محيط المدينة وأبعدها، وحول المخفر التركي الذي أقيم في حدود عام /1860/م لمراقبة عبور النهر وحفظ الأمن في المنطقة ، وهكذا نجد أنَّ تأسيس المخفر قد لعب دوراً أساسياً في جذب المهاجرين وتثبيت المسكن في "الرقة", وأنَّ أغلب المهاجرين الجدد قدموا من "أورفة" و"الموصل" و"العشارة" وبراجيك ، وفي منشورنا القادم سيكون الحديث عن هجر عشائر "الشعيب" و "المحمد الحسن" و "الأكراد" واستقرارها في المدينة داخل الأسوار ، ويلي ذلك في منشورات أخرى قادمة عن باقي العشائر القولية.
الباحث محمد العزو

تعليقات

المشاركات الشائعة